المهندس ولد الصيام يكتب عن " كدية الزغلان وكيف وجدها

كتب المهندس محمد محمود ولد الصيام عن ذكرياته مع " كدية الزغلان " الواقعة بولاية لعصابه وكيف وجدها بعد سنين من الهجر غير المتعمد .

وابرز الكاتب في نصه كيف كانت الحياة فوق الهضبة ومواقف حصلت معه من أكثر من عشرين عاما ...

وقد تفاعل كثيرون على وسائل التواصل الاجتماعي مع هذا النص وما أعاده من أهمية حول ضرورة العودة الى ذكريات الطفولة وماتعكسه مثل هذه الزيارات من نفض لغبار النسيان عن معالم طبيعية شكلت جزءا من جغرافيا الولاية ومحطات من ذاكرة الإنسان فيها ...

النص : 

من بين كل ما التهمه الزمن، وكل ما عصفت به الرياح وابتلعته الأيام، بقيت كدية "الزغلان" شامخة في مكانها، تحتضن رمالها البيضاء كأم لا تكبر، وتحافظ على قوامها الذي أدهشني أول مرة وأنا طفل صغير، حين تناقلت القرية همسا أن نمرا وحيدا يجوب أرجاءها.
ليال طويلة ظل الخوف يقض مضجعي؛ كنت أتخيل النمر يترك عرينه في أعماق الجبل وينحدر نحو القرية، يزرع الرعب في البيوت، ويتخذ من أهلها فرائس.
ثم جاءت إحدى نزوات الطفولة، حين قررنا، نحن مجموعة من الصبية المولعين بالمغامرة، أن نتسلق الكدية. 
كنا نسابق ضوء النهار ونجر وراءنا شاة بيضاء، كان يفترض أن تصل إلى بيت شيخ المحظرة هدية من أسرة رزقت بمولود جديد، على عادة الناس في القرية في مثل هذه المناسبات.
لكن شرارة طائشة—مثل رصاصة عرس طائشة—خطرت في ذهن أكبرنا سنا وأطولنا قامة وأكثرنا تجربة، فوجدنا أنفسنا نغير مسار الشاة، ونتجه بها نحو الجبل.
بالنسبة إلي، ابن المدينة الذي قذفت به صروف الدهر إلى هذه القرية النائية، كان الصعود مغامرة محفوفة بالخطر. 
تعثرت، وكدت أن أسقط سقوطا حرا لا يختلف عن مصير تفاحة نيوتن، لولا أن ذراع صديقي الطفل—المسكون بالطيبة والبراءة—التفت حول ظهري وأنقذتني في آخر لحظة.
هناك، على القمة، تجولت بين الصخور، ورأيت الرسوم التي نحتها الأحياء القدامى: رجال ونساء وحيوانات منقوشة على الحجر، شاهدة على زمن غابر. 
شربت من ماء يتسرب من بين الفتحات الصخرية، ماء بارد كأنه قادم من قلب الأرض. 
وفي يدي عظم من الشاة بعد أن شوي على نار سريعة، نظرت نحو القرية من بعيد. بدت صغيرة، محاطة بالرمال، يخترقها شريط أسود رفيع يشق طريقه نحو الشرق…
ولأول مرة، أدركت أنني كسرت حاجز الخوف.
لم يعد النمر سوى أسطورة حزينة عن وحش وحيد يقاسي الاكتئاب في عزلته، بينما نحن كنّا نكتشف العالم، بخفة طفولية، من فوق صخرة شاهقة. 
لكننا اليوم، في بعض الأحايين، نعود لتوهم وجود ذلك النمر؛ لا لشيء سوى هروبا إلى الطفولة، إلى تلك اللحظة الأولى التي كان فيها الخوف نفسه جزءا من مغامرة الحياة.